«وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا»

السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية

صدر كتاب «السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية»، الذي يشتمل على عشرة أبواب، لمجموعة من المؤلفين، في حوالي 466 صفحة، عن مطبوعات معهد الدراسات السياسية بباريس، تحت اشراف شارل فيليب دافيدCharles-Philippe David وجوليان توريلJulien Tourreille

نعم، دقت أجراس الحرب أبواب القارة الأوروبية وخرج المناخ عن نطاق السيطرة ووضعت الصين نفسها كقوة عالمية عظمى وها هي المعلومات الكاذبة لا تزال تُمثّل سلاحا جديدا في أيدي العديد من الأطراف الفاعلة، فهل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية الاستمرار في ممارسة دورها كقوة ناعمة تساهم في دعم الاستقرار الدولي ولو بشكل نسبي؟ الجواب لا.

نعم لا يمكن للبيت الأبيض منفردا ممارسة هذا الدور: بما أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة تعتمد على عدد كبير من الجهات الفاعلة التي تمارس ضغوطا مستمرة على البيت الأبيض، بدءا من الإدارة المسؤولة عن العمل الخارجي إلى جماعات الضغط ومراكز الفكر مرورا بالكونجرس الذي يتمتع بصلاحيات كبيرة.

العديد من الأسئلة الهامة يطرحها مؤلفو كتاب «السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية»: لماذا عجزت إحدى أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم، سواء من حيث الميزانية أو التكنولوجيا، عن توقع أحداث مهمة مثل سقوط الاتحاد السوفييتي أو هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001؟ ولماذا فشل أقوى جيش في التاريخ في تمكين الولايات المتحدة الأمريكية من تحقيق انتصارات ضد خصوم أضعف بكثير منه مثل فيتنام؟ وهل ينذر انسحاب العسكريين الأميركيين من أفغانستان بصعوبة متزايدة وبتراجع واشنطن على مساعدة حلفائها؟ ولماذا أصر القادة الأميركيون على فرض عقوبات شديدة على دولة كوبا، دون أن يتمكنوا من إسقاط نظام كاسترو؟ وكيف يشكل نفور دونالد ترامب من ركائز النظام الدولي الليبرالي الذي أقيم بعد عام 1945 قطيعة كبرى مع المبادئ والأولويات التي شكلت جوهر السياسة الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ وكيف تمكنت إدارة بايدن من فهم نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بشأن أوكرانيا قبل أشهر من قراره بشن أكبر حرب في القارة الأوروبية منذ ثمانية عقود في أواخر فبراير 2022؟

من أجل الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، يحيط شارل فيليب دافيد وجوليان توريل، اللذان أشرفا على خروج كتاب «السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية» الى النور، أنفسهما بالعديد من الخبراء الذين يطرحون آليات صياغة هذه السياسة وأسسها التاريخية والدستورية والثقافية، والذين يستشفون خفايا تلك السنوات الأربع التي مضت من رئاسة ترامب 2016/2020 والتي تشير الى أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية اليوم أكثر من أي وقت مضى تُعتبر استمرار للسياسة الداخلية ولو بوسائل مختلفة.

يرى مؤلفو هذا الكتاب ان السياسة الخارجية الأميركية، من الناحية التاريخية، تشكل واقعا معقدا للغاية. إنها متجذرة عبر تاريخ يمتد لأكثر من مائتي عام. من المهم إذن، قبل التطرق إلى المصادر المباشرة التي تتطور من خلالها مختلف الإجراءات السياسية الموجهة نحو الخارج، أن ننظر بشكل خاص إلى السياق العام الذي تتشكل فيه السياسة الخارجية وتتطور. فمنذ عام 1776 إلى عام 1945، اتسمت السياسة الخارجية الأميركية بالتوتر الدائم، والصراع الدفين بين الرغبة في التدخل في شؤون العالم أو عدم التدخل. إن تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية والسياق المعقد لظهور وبناء الأمة الأمريكية أدى إلى نشوء سياسة خارجية تجمع بين خاصيتين رئيسيتين تفسران هذا التوتر وهذه الدوافع المتناقضة، ألا وهما رفض التدخل في شؤون البلدان الأخرى، من ناحية، والدفاع عن المصالح السياسية والاقتصادية والعسكرية، من ناحية أخرى، من أجل ضمان بقاء الأمة الأمريكية ومن ثم الحفاظ على هيمنتها.

لقد شهدت السياسة الخارجية الأميركية، منذ الاستقلال وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، نقاط تحول رئيسية دعمت الطريقة التي صاغت بها الولايات المتحدة دورها في العالم: بداية من خطاب وداع جورج واشنطن في عام 1796 وتوضيح مبادئ الرئيس الأمريكي جيمس مونرو التي نادى بها في عام 1823 والحرب الإسبانية الأميركية في عام 1898 واتفاقية روزفلت الملحقة بمبادئ مونرو في عام 1904 ودخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى في عام 1917 ورفض معاهدة فرساي في عام 1920 ودخول الحرب في عام 1941.

كما يرى مؤلفو كتاب «السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية» ان السياسة الخارجية الأميركية، من الناحية الدستورية بدأت منذ المؤتمر الدستوري الذي انعقد في فيلادلفيا بين 25 مايو و17 سبتمبر 1787، ونشأت معها دولة جديدة مدفوعة بمبادئ عصر التنوير عندما استجاب النظام السياسي الأميركي لرغبة الآباء المؤسسين في إقامة ديمقراطية فعالة مع الحفاظ على المنطق الكونفدرالي الذي أشرف على إنشاء الاتحاد. ان هذه الخصائص هي التي سمحت للدولة بالتكيف والاستمرار لأكثر من قرنين من الزمان. إن ممارسة هذا المبدأ وتفسيره يتطوران باستمرار، وخاصة في السياسة الخارجية حيث استمر هذا المبدأ في التحول وفقا للصراعات وتوازنات القوى والتسليح. أما في 17 سبتمبر 1787، فقد تم اعتماد دستور يهدف الى تشكيل ضوابط وتوازنات، الأمر الذي يعني تقسيم مزدوج للسلطة: أفقي (بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية) وعمودي (بين الدولة الفيدرالية والولايات الثلاثة عشر الأولى المؤسسة للولايات المتحدة الأمريكية).

يشير مؤلفو هذا الكتاب الى انه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فان السياسة الخارجية الأميركية يتم صياغتها في المقام الأول من قبل السلطة التنفيذية، وهذا الأمر يقع على عاتق الرئيس والوزارات على وجه الخصوص. غير أن الإدارات التي كانت تقوم بصياغة السياسات الأمريكية وتنفيذها شهدت تحولات كبيرة ومن بينها وزارة الخارجية التي كانت تتمتع حتى وقت قريب بصلاحيات واسعة كصانعة للسياسة الخارجية، الا أن مكانتها تراجعت بل وأصبحت مهمشة. الأمر الذي جعل المراقبون يقولون بإن صياغة السياسة الخارجية الأميركية تشبه الأخطبوط الذي يغرز مخالبه البيروقراطية في ثنايا السلطة التنفيذية. ومع ذلك، تظل الرئاسة مهيمنة إلى حد كبير في تطوير السياسة الخارجية وهي التي تحدد توجهاتها. وهكذا، ففي أغلب قضايا السياسة الخارجية الرئيسية، تتمتع الرئاسة بمزايا هائلة على الكونجرس.

ولكن لا ينبغي لنا أن نستنتج أن الكونجرس أصبح عاجزا عن ممارسة دوره في وضع السياسات الخارجية. يُذكر أن المؤرخين الفرنسيين أندري كاسبي André Kaspi وهيلين هارتر Hélène Harter أشارا الى أن الدستور يتعامل مع الرئاسة فقط في مادته الثانية، مع تخصيص 5% للسلطة التنفيذية و25% للسلطة التشريعية، وهذا يعني في أذهان الآباء المؤسسين أن الكونجرس هو المهيمن. ومع ذلك، وكما يوضح المؤلفون، فإن جميع الرؤساء منذ جورج واشنطن يطبقون مبدأ أولوية السلطة التنفيذية في السياسة الخارجية.

يؤكد مؤلفو كتاب «السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية» على أنه من النادر أن يكون الكونجرس، وهو الهيئة التشريعية الفيدرالية للنظام السياسي الأمريكي، هو الفاعل الأساسي في صياغة وتنفيذ السياسات الخارجية للبلاد. ويذهب المؤلفون إلى أبعد من ذلك، فيزعمون أن أعضاء الكونجرس فقدوا الرغبة في تحديد السياسة الخارجية بالتعاون مع البيت الأبيض. وبحسب هذه الأطروحة، يمكن النظر إلى الرئيس باعتباره العقل المدبر للسياسة الخارجية.

فهل يعني هذا أن الكونجرس أصبح لاعبا خاملا، وغير قادر على ترك بصماته على السياسة الخارجية؟ أجاب الفقيه الدستوري الأمريكي إدوارد كوروين Edward Corwin بالنفي، بما أن دستور الولايات المتحدة يشجع "المنافسة بين المؤسسات للحصول على امتياز إدارة السياسة الخارجية". اذ تتجسد معظم هذه الأدوات الفاعلة في دستور البلاد، الذي يسند العديد من صلاحيات السياسة الخارجية إلى مجلسي الكونجرس، أي مجلس النواب الذي يضم 435 عضواً منتخبا ومجلس الشيوخ الذي يضم 100 عضو منتخب.

غير أن مؤلفي كتاب «السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية» يرون ان جماعات المصالح ومراكز الفكر الذين يشكلون عنصرا أساسيا في المجال العام الأميركي قد أصبحوا موضوعا لأدبيات علمية مثيرة للإعجاب تدور حول أصولها وتطورها وأساليب عملها وتمويلها، فضلا عن تأثيرها على السياسة الداخلية والخارجية. ومع ذلك، وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي أُحرز في العقود الأخيرة، فقد ركز المؤلفون على الطرائق التي يسعى من خلالها المجتمع المدني المنظم على التأثير على صياغة السياسة الخارجية الأميركية. ولهذا لا يمكن تجاهل النفوذ الذي تسعى اليه جماعات الفكر ومؤسسات البحث بغرض ممارسة تأثير من نوع ما، سواء بالهمس أو الصراخ في أذن الرئيس أو مستشاريه أو أعضاء الكونجرس، في محاولة منهم لكسب حرب الأفكار.

من ناحية أخرى، أشار مؤلفو كتاب «السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية» الى صعوبة قياس ثقل الرأي العام ووسائل الإعلام في عملية صنع القرار لدى القادة الأميركيين، وخاصة الرئيس خاص عندما يتعلق الأمر بقضايا السياسة الخارجية، يرجع السبب في ذلك الى عدم اهتمام كثير من الأميركيين بهذا الموضوع. ويلاحظ المؤلفون ان العلاقات بين الرأي العام ووسائل الإعلام والنخب السياسية معقدة إلى درجة أنه من غير الممكن التوصل إلى استنتاج نهائي بشأن تأثير كل منها على حدة حيال قرار معين. إن هذا الوضع يفسر غياب الإجماع بين الباحثين حول التأثير الحقيقي لهذه الجهات الفاعلة في صياغة السياسة الخارجية الأميركية، وخاصة أن صناع القرار عموما يصرون، مثل الرئيس جورج دبليو بوش عندما وصل إلى البيت الأبيض في عام 2001، على القول بأن ادارته "لا تستطلع آراء الناس حول شيء مهم مثل الأمن القومي والشؤون الخارجية". ومع ذلك، يبذل البيت الأبيض جهودا هائلة لإعلام الرأي العام وإقناعه بدعم توجهاته السياسية.

ختاما: ولان ظلت السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية موضوعا مثيرا للاهتمام إلى حد كبير، فان هذا الكتاب سيظل مرجعا مهما للجميع: القارئ العادي وأيضا القارئ المهتم بالقرارات التي يتم اتخاذها في البيت الأبيض وكذلك القارئ المحترف الذي يسعى إلى فك رموز النوايا الأمريكية وتناقضاتها على الساحة الدولية.


Créez votre site web gratuitement !