
مشاغبات ثقافية خفيفة عند أطراف قريتي
هذا كتابٌ أردتُ به أن أصطحب القارئ معي الى قريتي، لا ليكتشف معالمها وتاريخها ولا ليكشف القناع عن طبائع وعادات وأعراف أهلها، بل ليعرف أن قريتي اسمها سُبك الضَّحاك وأني أحد أبنائها، ترعرَعتُ بين رِياضها وصِرتُ فيها يافعا ثم انقلبتُ كهلا وها أنذا أحطِّم الخمسين من عمري تحطيما سريعا.
نعم، من الحق أن أصارح القارئ بأن شعورا هزّ أعماق نفسي وطوايا روحي ومسّ شغاف قلبي أكثر من أي شيء آخر وبعث فيَّ النشاط كي أنشر هذا الكتاب. فعل بنفسي كل هذا ذكرى أبي الحاج منير موسى، رحمه الله رحمة واسعة وغفر له، التي هي كل يوم من أيامي، فأبي بالنسبة لي كالجبل الشامخ أدبا وعلما وأنا في سفحه كالرمال.
كان أبي، رحمه الله، محبا للقراءة ولاقتناء الكتب وكان دائما ما يقول لي:
" إني لأرجو أن أعيش حتى أرى لك كتبا يَنتفِع الناس بها، أتعدني، أجبت نعم ان شاء الله."
مضت الأيام بما تمضي به الأحداث ثم أَنبَأ المُنبِّئ ذات يوم أن أبي قد انتقل الى جوار به راضيا مرضيا.
السؤال: متى تتحقق أحلام أبي؟ والى متى تظل هذه الأحلام حبيسة في صندوق أمنياتي؟
الجواب: إن لم يتحقق حُلم أبي في حياته، فهذا لا يعني أن حُلمه، رحمه الله، قد انطفأ. نعم، من المؤلم جدا لكاتب هذا الكتاب أن يأتيه ما تمناه والده وقد تأخر الوقت كثيرا، لكن أن يتحقق الحُلم في وقت متأخر خير من ألا يتحقق أبدا.
ها هي الرياح بعد طول غياب تجري بما تشتهيه سُفن الكاتب، ولله الحمد والمنة، وها هو ذا يبرّ بوعده لأبيه، وعليه فقد تقرَّر، وبالله التوفيق، نشر هذا الكتاب.
سيرة ومسيرة الوالد الحاج منير موسى
وُلِد أبي، رحمه الله، في احدى قرى جنوب الوادي بصعيد مصر، في أسرة عريقة محبة للعلم، لِوالِد كان يعمل مدرسا للغة العربية. كان لجدي، رحمه الله، فضيلة الشيخ محمد كامل موسى أكبر الأثر في تكوين شخصية أبي حيث عٌرِفَ عن جدي أنه كان يتمتع بوعي كبير وسعة أفق وبعد نظر. غرَس جدي، رحمه الله، في نفس أبي الغرام بالقراءة ومحبة الكِتاب الذي يعدّ بمثابة:
" الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتُال لك بكذب".
يَحكِي أبي عن جدي أنهما تحدثا، ذات يوم، عن أهمية تكوين أسرة زوجية تكون واحة للمودة والرحمة، فكانت المصاهرة مع عائلة عبد العال بسُبك الضّحاك وتحديدا أسرة جدي لأمي فضيلة العالِم الجليل الشيخ أحمد عبدالعال رحمه الله رحمة واسعة وغفر له. تزوج والداي ولم يكن بحوزتهما شيء غير المودة والسكينة وقلوب ملأها الله لهما بالإيمان، وهكذا كانت مسيرة والدتي، متعها الله بطول العمر وراحة البال والصحة والعافية، مع الوالد تفيض عن نهر متدفق من الحنان والرحمة والحب.
ظل أبي مصاحبا لجدي الى أن شاء الله أن ينتقل الجدّ الحنون الى جوار ربه في مسقط رأسه بسُبك الضَّحاك وقد تجاوز أبي الثلاثين من عمره بقليل. عرف أبي طريقه الى العالَم الخارجي فسافر الى المملكة العربية السعودية ثم الى الجزائر معلما للغة العربية فاستقر بهما أعواما، ثم عاد الى مسقط رأسه، سُبك الضّحاك، معلما ثم مديرا لمدرسة وأخيرا موجها بالإدارة التعليمية الى أن أحيل للمعاش.
كانت الإحالة الى المعاش هي المرحلة الفارقة في حياة أبي، رحمه الله، اذ انها تُعدّ بمثابة إشارة الانطلاق نحو بدء رحلة جديدة مع العمل التطوعي، فتشرَّبت نفس أبي حب الخير والسعي في خدمة مجتمعه بسُبك الضّحاك.
أسهم أبي، رحمه الله، مع الخيّرين من أبناء القرية في انشاء جمعية نور الإسلام الخيرية، فكان عمله مع أصدقائه أعضاء مجلس إدارة الجمعية نواة العطاء الاجتماعي وكان من أبرز أهداف وأنشطة الجمعية:
الاسهام في بناء مسجد الايمان
الاسهام في بناء مسجد أبو موسى ناحية البحر.
الاسهام في بناء معهد سبك الضحاك للفتيات.
الاسهام في بناء حضانة الزهور.
الاسهام في بناء مستوصف الايمان الخيري.
استمر الوالد الحاج منير موسى، رحمه الله، مع أصدقائه في وضع الخطط والاقتراحات من أجل تطوير العمل بهذه المشاريع الخيرية التي أسهمت حتما ولا تزال في بناء المجتمع، الى أن توفاه الله راضيا مرضيا في عام 2015.
ودَّعنا أبي، رحمه الله، وقد شملني واخوتي بسيرته الطيبة وحسن اقباله على الله وزهده في الدنيا. أسأل الله أن يكون لي ولأخوتي نصيب من قوله الله جلّ في علاه (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) فإنَّ في هذه الآية، كما جاء في تفسير ابن كثير، دليل "على أنَّ الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركةُ عبادته لهم في الدنيا والآخرة، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم."
رحم الله أبي، الحاج منير موسى، وغفر له وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة فقد سار في الناس سيرة حسنة، فهنيئًا له هذه السيرة العطرة.