جدول أعمال

العمل الروائي الذي بين أيدينا يتألّف من ستة عشر فصلا ويقع في الطبعة الفرنسية التي قامت بنشرها دار آكت سود في 160 صفحة. يستمد كاتب هذا العمل الروائي السيد اريك فويار مادته من التاريخ المعاصر وهو بهذا يجعل الأحداث التي مرت بألمانيا منذ عام 1933 نُصب عينه وموضع عنايته واهتمامه. ان الصلة بين رواية "جدول أعمال" وبين الأعمال التاريخية صلةُ مباشرة، ومع ذلك فكاتب هذا العمل لم يغفل أنه روائي ولم يمارس الدورَ المنوطَ بالمؤرخ.

تتميز رواية جدول أعمال بما تتميز به كافة الأعمال الروائية من عناصر تتعلق بالوصف والسرد. ولأنه لا يمكن قراءة هذا العمل الروائي بدون رسم صورة سردية تهدف الى التعبير عن ثنائية الحياة والموت، فان اريك فويار نجح في نفض الغبار عن حِقبة تاريخية معينة بدأت في عام 1933 وانتهت 1945.

أهم ما يلفت الأنظار في "جدول أعمال" هو الدور الذي لعبته لغة الأرقام أو لنقل الزمن التاريخي المرتبط بحدث معين في فترة زمنية معينة، وهذا الزمن من شأنه أن يلعب دورا محوريا في بناء هذه الثنائية، وهنا نستطيع القول بأن الكاتب نجح في استرجاع الوقائع التاريخية في الزمن الماضي وبناء قصتِه المسرودة في الوقت الحاضر.

أولا: الرقم ( واحد، تسعة، ثلاثة ثلاثة) أو لنقل العام 1933م

اعتبارا من هذا العام انتهج هتلر سياسة خارجية تهدف الى الاستيلاء على ما أسماه بالمجال الحيوي أي السيطرة على مناطق معينة لتأمين الوجود لألمانيا النازية وضمان رخائها الاقتصادي من خلال مجموعة من الأحداث، نذكر منها مثلا:

حريق البرلمان الذي يُعد من أهم الأحداث التي وقعت في عام 1933، هنا يمهّد اريك فويار للقارئ الطريق الى فهم مجريات الأمور بقوله:

" العشرين شباط/ فبراير من هذا العام لم يكن التاريخُ مِثلَ أيِ تاريخٍ"

نحن أمام نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة بقيادة هتلر وزعامته لحزب سياسي يعمل من خلاله على إرساءِ دعائمَ نظامٍ تحكمه النزعةَ الشموليةَ الديكتاتوريةَ الفاشية. السؤال الذي يطرح نفسه، ما أهمية الدلالة الزمنية التاريخية لعام 1933م بالنسبة الى فويار؟ الإجابة وردت في قوله: " حل الظلام على الرُدهة الواسعة في قصر رئيس مجلس النُواب، ولكن بعد ذلك لن يكون هناك مجلسُ نُواب ولن يكون هناك رئيس، "

نلاحظ هنا أن مستويات الزمن ترتكز على الدلالة التاريخية المحملة بأيدلوجية فكرية ناتجة عن انتقال الكاتب من الزمن الماضي الى الزمن المستقبلي من خلال تدمير مبنى البرلمان بسبب الحريق في الزمن الماضي والتحول نحو دولة ديكتاتورية في المستقبل بانهيار مجلس النواب.

من الأحداث الهامة التي وقعت في هذا العام نذكر منها افتتاح معتقل مدينة داخو الألمانية والتعقيم القسري لكل مَن يعاني مِن الأمراض العقلية. هنا تتجسد العلاقة بين الزمان والمكان من خلال الفضاء الجغرافي المغلق الموحش الذي تم التعبير عنه بمعتقل داخو، اذن سيحتل المكان المغلق مكان الصدارة في هذه الرواية وسيصبح أفقا يمتد ببياضِ نهاره وعتمةِ ليله طالما استمر الحزب النازي في بناء معتقلات أخرى، كما سيصبح الزمن فعلا استفزازيا متصاعدا ثم ينقطع عندما تنفجر الأحداث مع بداية الحرب العالمية الثانية.

ثانيا: بلغة الأرقام نتحدث عن مليون مارك ومليون انسان.

فيما يتعلق بالمليون مارك: جاءت راوية "جدول أعمال لتؤكد على أن الزواج المحرَّم بين السلطة والمال أدى إلى سيطرة الحزب النازي الاستبدادي على أوروبا ومن ثمّ الوقوع في فخ حرب عالمية لم تبق ولم تذر. ولأن عام 1933م تميّز بانعقاد اجتماع سري بين هتلر ومستشاريه من ناحية وكبار رجال الأعمال الألمان وعددهم 24 من ناحية أخرى، فقد تقرر تقديمَ تبرعات مالية للحزب النازي. أشهرُ المتبرعين هو جوستاف كروب الذي كان يتمتع بحضور قوي في المشهد السياسي في تلك الفترة. دليلنا على ذلك صورة جوستاف كروب نفسه التي وضعها الناشر الفرنسي على غلاف الكتاب في نصه الأصلي. العلاقة بين المال كعامل اقتصادي والسلطة كطرف فاعل سياسي كانت محورَ اهتمامِ اريك فويار بهذه الشخصية وبعائلته خاصة عندما يتحدث الكاتب عن ابنه ألفريد الذي سيصبح يوما ما من أقوى رجال الأعمال في السوق الأوربية المشتركة، وسيكون الرجل الأول في عالَم صناعة الفحم والحديد الصلب وسيكون الداعم الأكبر للسلام الأوروبي.

استفاد كروب الأب من مساندته المادية للحزب النازي في تطوير امبراطورته الاقتصادية التي اصبحت تمثل له فضاء جغرافيا محليا داخل ألمانيا، كما أنها اصبحت تمثل لأبنه ولأحفاده من بعده فضاء جغرافيا دوليا. سياهم هذان الفضاءان القديمِ منه والحديث في سيرورة الأحداث داخل الرواية من خلال ثنائية الذاكرة والنسيان. سيتوجه الكاتب الى القارئ الفرنسي ويذكره بكروب الأب الذي موّل آلة الحرب والألمانية وبالتالي فهي دعوة منه لعدم نسيان الماضي في زمن الحرب. أيضا هي دعوة لعدم نسيان الحاضر والمستقبل في زمن السلم لأن شركة كروب تنتج منتجاتُنا كلِها: " اننا نعرف أسماء هذه الشركات ونعرف أصحابها جيدا. إنهم هناك متواجدون معنا ويعيشون بيننا: إنهم المنتجون لسياراتنا وغسالات ملابسنا ومنتجات التنظيف لدينا وأجهزة الراديو والإنذار وتأمين منازلنا وبطاريات ساعتنا. إنهم هناك في كل مكان وعلى كل شاكلة. حياتنا اليومية مرتبطة بهم. انهم يقدمون لنا العلاج ويصنعون لنا الأثواب ويهيئون لنا الأضواء ويعبّدون لنا الطرق."

بالنسبة الى الفضاء الجغرافي المحلي في الداخل الألماني: أنتجت شركة جوستاف المحلية منتجات عسكرية للجيش الألماني قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة الى الفضاء الجغرافيا الدولي: ستنتج شركات جوستاف الدولية العابرة للقارات منتجاتٍ مدنية، وكأننا أمام كاتب يطلب من القارئ أن يظل يقظا وألا ينسى أو يتناسى ما فعلته شركة كروب بتحالفها مع هتلر. ان شراء القارئ لهذه المنتجات تُعتبر من وجهة نظر المؤلف اريك فويار دعما ومساندةً ماديةً لشركة كروب ولغيرها من الشركات التي موّلت آلة الحرب الألمانية، تلك الآلة التي قتلت أجدادَهم وربما تركت الكثير من آبائِهم بعاهات مستديمة.

من الأهمية بمكان القول بأن ثنائية الذاكرة والنسيان وردت في أعمال كتّاب كبار مثل فكتور هيجو في روايتة أحدب نوتردام ويهدف هوجو بذلك الى أن احياء ذاكرة الأمة المعاصرة ودعوتها الى عدم نسيان الأحداث الكبيرة التي مضت.

اما ما يتعلق بالمليون انسان، فمن المعروف بداهة ان لا وجود لعالم مسرود بدون وجودِ شخصية يتمحور حولها المضمون الذي يريد الكاتب إيصاله للقارئ. فهي من أبرز المكونات التي يعتمد عليها العمل الروائي، الشخصية في رواية جدول أعمال اما تكون حية متحركة كشخصية رجال الأعمال ال 24 أو شخصية هتلر ومستشاريه وقد تكون الشخصية ساكنة ميتة كشخصية من قضى في المعتقلات أو من انتحر لسبب ما أو جرّاء الحرب. هذه الشخصية يمكن تصنيفها بأنها ثانوية ومع ذلك فهي تلعب دورا هاما يعمل في بعث الحركة والحيوية داخل البناء الروائي.

الشخصية الساكنة التي نتحدث عنها هنا هي شخصية مجهولة لا يعرفها الكاتب وبالتالي لن يعرفها القارئ. ستكون الشخصية المجهولة هي المحرك الأساسي لأحداث تتعلق بثنائية الموت والحياة، الموت لمليون انسان في ايرلندا أو ما يعرف بمجاعة ايرلندا الكبرى. سنقرأ في رواية جدول أعمال ما نصه:" أليس هاليفاكس هو فخامة المسؤول الأول، بصفته مستشار الإدارة المركزية والمالية، الذي عارض بشدة أي مساعدة إضافية إلى أيرلندا خلال مدة توليه منصب مستشار؟ لقد تسببت هذه المعارضة في حدوث مجاعة مما أدى إلى وفاة مليون إنسان."

فعل الموت هنا يفجر عند اريك فويار سكون عالمه الروائي، لا يتناول الكاتب قضية الموت الطبيعي الذي تنتهي به حياة كل إنسان، لكنه يتناول قضية الموت الذي تأتي به أعمال الطرف الفاعل السياسي غيرَ المسؤول، فالكاتب هنا يوجه أصابع الاتهام للشخص الذي تسبب في ازهاق أرواح هؤلاء البشر. من الملاحظ أن بنية رواية جدول أعمال ستستند إلى ظاهرة الموت عنما تظهر في موضع آخر لتكون هي المحركة لشخصية الانسان المجهول الساكنة بالموت، كما في الفقرة التالية:" هكذا أصبح الإعلان عن حالات الانتحار في الصحافة عملاً من أعمال المقاومة. فإذا ما حاول بعض الصحفيين وصف هذه الحالات بقوله "موت مفاجئ"، فسيتم إسكاتهم بسرعة رغما عنهم. إذن يجب البحث عن صِيَغ مألوفة أخرى دون أن يكون لها نتائج واضحة. وهكذا، لا يزال مجهولاً عدد الذين انتحروا وأسمائهم."

ختاما نقول: تتأتى أهمية رواية "جدول أعمال" من كونها تلجأ إلى توظيف التاريخ داخل النص السردي توظيفا ساهم في تشكيل جمالية هذا النص.