«وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا»

عصر المواجهات أهم نقاط التحول الجيوسياسي


تأليف تييري دو مونبريال Thierry de Montbrial مؤسس ورئيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (Ifri) ورئيس منظمة مؤتمر السياسة العالمية ( (WPC، عضو أكاديمية العلوم الأخلاق والسياسات التابع لمعهد فرنسا منذ عام 1992 وعضو مشارك في العديد من الأكاديميات الأجنبية. ألَّف حوالي 20 كتابا وتمت ترجمة بعضها الى عدد من اللغات. حصل على وسام جوقة الشرف برتبة قائد عظيم في 2019.

يتناول كتاب " عصر المواجهات أهم نقاط التحول الجيوسياسي" مجريات الأحداث في بداية هذا القرن عندما أراد الغربيون التّشبث بالعولمة وتطبيق اقتصاد السوق. لكن بعد مرور ربع قرن، انخرط العالَم في حرب باردة للمرة الثانية، ولربما ينخرط مستقبلا في بدايات حرب عالمية ثالثة: فالحرب في أوكرانيا قلبت الأوضاع في القارة الأوراسية رأسا على عقب، وفي مواجهة الصين تحركت الولايات المتحدة الأمريكية من أجل الحفاظ على هيمنتها. ولأن الحرب الاقتصادية بلغت أوجها في ظل تخفيض تقييم ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يجري إصلاحات عميقة من أجل البقاء.

بمناسبة صدور كتاب "عصر المواجهات أهم نقاط التحول الجيوسياسي،" أجرت صحيفة Les Echos الفرنسية بتاريخ 14 فبراير 2025 حوارا هاما مع المؤلف تأليف تييري دو مونبريال Thierry de Montbrialجاء فيه:

بعد ثلاثة أسابيع من وصول إدارة ترامب، التي كسرت كل القواعد، الى سدّة الحكم، يشرح المتخصص في الشؤون الدولية، تييري دو مونبريال hierry de Montbrial، كيف دخلنا في خضم حرب باردة ثانية، تختلف تماما عن الحرب السابقة. لماذا يمكن أن يندلع صراعا عالميا جديدا في السنوات المقبلة، وكيف تتحول الحرب الى صراع خفي مع تعدد الحروب الهجينة؟

بدأت واشنطن وموسكو محادثات لإنهاء الصراع في أوكرانيا. الأوروبيون مستبعدون تماما. ما الذي يمكن أن يؤدي إليه هذا الوضع بالنسبة لأوكرانيا، وماذا يعني هذا الأمر بالنسبة للعلاقات عبر الأطلسي؟

إن الأحداث الجارية، للأسف الشديد، وفقا للتنبؤات التي طرحتُها في بداية الحرب الأوكرانية تؤكد أهمية النهج الواقعي في العلاقات الدولية. لنكن حذرين. لن يكون سهلا تحقيق وقف إطلاق النار، وذلك بسبب الوجود الأوكراني في منطقة كورسك. خاصة إن وقف إطلاق النار لن يحل القضية الرئيسية التي تتعلق بإعادة بناء نظام الأمن الأوروبي. وسيكون وقت المفاوضات بشأن هذه القضية بمثابة لحظة الحقيقة بالنسبة للأوروبيين. وسوف نبتعد بعد ذلك عن الأفكار التجريدية المتعلقة بالدفاع الأوروبي.

اننا نرى كيف يقوم دونالد ترامب بتسوية الحسابات مع الإدارة الأمريكية وفقا لخططها الشاذة للاستيلاء على بنما وجرينلاند وأيضا غزة. ما النظرة الواقعية لهذا النوع من القادة الذين يتصدرون المشهد السياسي؟

ان الواقعية تختلف عن السياسة الواقعية والسياسة التشاؤمية. فالسياسة الواقعية تعني التفكير الذي يعتمد على التوازن المادي للقوة. أما عن السياسة التشاؤمية، فهي تعني انعدام الأخلاق.

كما يوحي اسمها، فإن الواقعية تسعى إلى تحليل العالَم وفقا لما هو عليه، وليس كما نرغب أن يكون. عند اتخاذ القرار، فإننا ننصح بدراسة موضوعية مسبقة للعواقب المترتبة على اتخاذ القرار. يجب على صانع القرار أن يفكر بعقلانية قبل ان يتصرف، ومن دون أن تتحكم فيه التحيزات الإيديولوجية. عند حساب نسبة الفائدة، تأتي القيم كعوامل مهمة ولكنها ليست حصرية.

لا يستطيع أحد التنبؤ بما سيفعله ترامب بعد شهر، وخاصة فيما يتعلق بأوكرانيا أو الشرق الأوسط. ان منهجه يعتمد في المقام الأول على التعدي. فالحقيقة التي جعلت أغلب الناس ينخدعون فيه بصورة منهجية، هي برأيي، توضيح لهاتين المدرستين الفكريتين الكبيرتين: المثالية والواقعية.

هل مازلنا نشعر بالصدمة من القوة التدميرية لقراراته الأولى؟

يميل العديد من أولئك الذين يخطئون في فهم ترامب إلى اعتباره بمثابة إنسان خارق وشيطاني إلى حد ما. لقد نجحت وحشيته المدروسة في كثير من الأحيان. أعتقد أن الأمر نفسي للغاية. ان ترامب يفهم بشكل غريزي نقاط ضعف محاوريه. إنه يشعر بالخوف. وقد أتت ضغوطاته على بنما وكندا والمكسيك بثمارها بالفعل. إن القضايا الكبرى مثل أوكرانيا أو غزة معقدة للغاية، ولا أعتقد أنه يجهل ذلك.

إن الجانب الخشن [لدونالد ترامب] يعدّ أمرا خارجا عن السيطرة.

كل ما نستطيع قوله هو أن استعداده للتوصل إلى تسويات واقعية جديرة بالثقة، لم يكن هذا هو الحال بالنسبة للرئيس السابق بايدن. من هذا المنطلق، نرى ان لديه فرص جدية لتحقيق نتائج. بالنسبة لترامب، فإن شعار "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى Make America Great Again" يتعلق في المقام الأول بالبعد الاقتصادي للقوة. إن الوصول إلى الموارد هو ما يدور في ذهنه عندما يتحدث عن قناة بنما أو جرينلاند أو حتى نتائج الحرب في أوكرانيا. لكن فيما وراء الواقعية توجد بشكل دائم البراجماتية.

هل تعتقد أنه يفقد مصداقيته بهذا التصرف؟

لا. لكن حقيقة انحرافه عن الصوابية السياسية PC، على سبيل المثال فيما يتعلق بغزة، يعد أمرا مثيرا للقلق. ان ترامب ليس مثقفا، لن نسمعه يصوغ سياسته الخارجية كوحدة متماسكة. إن الجانب الخشن [لدونالد ترامب] يعدّ أمرا خارجا عن السيطرة. لم يمر بعد شهرا على توليه منصبه، ومن المبكر للغاية تقييمه.

نعتقد أن القانون قادر على تنظيم العلاقات الدولية...

يبدو هذا الاعتقاد ايديولوجي. حيث يخلط كثير من الناس بين الحوكمة العالمية والقانون الدولي. إن إطلاق عبارة النظام، كاستخدام لغوي متعسف، الذي ساد أثناء الحرب الباردة كان يستند إلى قواعد سلوكية مقبولة إلى حد ما بحكم الأمر الواقع من جانب القوى العظمى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. فالقانون ضمن الإطار العام، الذي يحظى بالاحترام بدرجة أكبر أو أقل اعتمادا على توازن القوى، يلعب دورا يمكن من خلاله امتصاص الصدمات في حالة الاضطرابات.

فالاتحاد الأوروبي طبقا لما هو عليه حاليا [...] عبارة عن هيكل هش للغاية

ان التاريخ المعاصر يُظهِر بوضوح أن القوى العظمى لا تطبِّق القانون إلا عندما تكون القرارات الناتجة عنه متوافقة مع مصالحها. فالقانون الدولي يُعتبر قبل كل شيء حماية للدول الأقل قوة. أما في فترة التحول العميق التي نعيشها، فإن الواقعية تفرض بقوة ضرورة التمييز بين الحوكمة والقانون ضمن إطار مفاهيمي.

ولكن ما الذي لدينا بديلا عن ذلك؟ إنها غابة، إنه قانون الأكثر قوة...

لقد نسينا تماما أن الحرب الباردة لم تكن جنّة بالنسبة للعالم بأكمله. فعلى المدى الطويل، يتغير النظام الدولي باستمرار. على سبيل المثال، الحدود في حركة مستمرة: مبدأ عدم المساس بالحدود، على المدى الطويل، مجرد خيال. لقد دخلنا اليوم في حرب باردة ثانية، وسوف تكون مختلفة تماما عن الحرب الأولى. لم يعد من الممكن استبعاد احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة، كما كان الحال أثناء الحرب الباردة. وفي هذا السياق، أشعر بالقلق بشأن الاتحاد الأوروبي.

ما السبب؟

لطالما كنت دائما مقتنعا بأن الاتحاد الأوروبي القوي يعدّ أمرا ضروريا لضمان استدامة القارة القديمة. لكن الاتحاد الأوروبي، في الوت الحالي بعد التوسع غير المنضبط منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، يعدّ بناء هشا للغاية.

أرى ان العديد من دول الاتحاد الأعضاء يركّزون على مصالحهم الوطنية أكثر من تركيزهم على مصالح الاتحاد بحد ذاته. لقد اعتمدت الدول المؤسسة للمجموعة الأوروبية روايات الدول التابعة للاتحاد السوفييتي سابقا، والتي لا تتماسك دائما مع بعضها البعض. أنا لا أصدر حكما، لكنني أرى أن النتيجة لا تسمح لنا بالحديث بدقة كاملة عن الهوية الأوروبية.

وأعتقد أيضا أن النظام المؤسسي للاتحاد الأوروبي معقد للغاية، بسبب آليات العمل التي لا تضمن تماسك القرارات، على سبيل المثال المواضيع المرتبطة بالهجرة أو الأمن. كما أن لدي أيضا شكوك حول شرعية صناع القرار الأوروبيين فيما يتعلق بالديمقراطية.

لا ينبغي لنا أن ننتظر حتى ننغمس في الأزمات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الجيوسياسية كي نتمكن من إصلاح عمل الاتحاد. ان هذا الأمر يتجاوز إلى حد كبير القضايا المباشرة، رغم أهميتها البالغة، التي يركز عليها النظام حاليا.

ما الذي ينبغي أن نفعله إذن؟

لنضع كل شيء على الطاولة مرة أخرى. ان الاصلاح الذي يتم بشكل منظم هو ما نقوم به بأنفسنا لأنفسنا. اذن يجب على كل دول الاتحاد الأعضاء أن تقوم بالترتيب الداخلي. من هذا المنظور، تقع على عاتق فرنسا وألمانيا مسؤولية هائلة، كل دولة منهما على حدة وكليهما معا بما أن العلاقة بينهما سوف تحدد بشكل كبير مستقبل الاتحاد كله. وعلى المدى المتوسط، على سبيل المثال، سيكون مستقبل منطقة اليورو موضع تساؤل.

كيف ترى بداية الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي؟ هل الاتحاد الأوروبي محمي بشكل جيد؟

هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق. حيث تتمتع المفوضية الأوروبية بخبرة تجارية، ولكنها لا تتمتع بأية خبرة فيما يتعلق بالسياسة الدولية بشكل عام. لكن "الحرب التجارية" التي أطلقها ترامب ترتبط ارتباطا وثيقا بالقضايا السياسية. اننا نشاهد هذه الحرب بالفعل في القارة الأمريكية من خلال الربط الذي أقامه بين الرسوم الجمركية وسياسة الهجرة. لكنني لست متأكدا من أننا سنتمكن من تجنب الخلافات بين مصالح الأطراف الفاعلة داخل الاتحاد الأوروبي. لا يوجد الا الروس وحدهم القادرين على استغلال هذه الخلافات.

على الصعيد الأمني؟ ما رأيك في جهود أوروبا من أجل تنظيم صناعتها الدفاعية؟

نقطة البداية هذه جيدة. ولكن لا ينبغي لنا أن نقلل من أهمية الصعوبات السياسية. في مجال الدفاع، تعتمد الخيارات الصناعية على افتراضات طويلة الأمد تتعلق بالمخاطر الأمنية. ومع ذلك، فإن المصالح الأمنية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لا تسمح بتعريف واضح لمصالح الاتحاد بشكل عام.

على سبيل المثال، من وجهة نظر جيوسياسية بحتة، فإن العلاقة مع روسيا أو الجزائر تختلف بشكل كبير عن دول البلطيق أو بولندا من جهة، وفرنسا أو إيطاليا من جهة أخرى. لأوروبا حدود من الناحية الشرقية ومن الناحية الجنوبية، كما أن درجة الارتباط بين التهديدات القادمة من هذين الاتجاهين تعتمد في حد ذاتها على درجة الارتباط بين السياسات التي تتبعها احدى هذه الدول في كل من هذين الاتجاهين.

علاوة على ذلك، فإن مستقبل الصناعات الدفاعية الأوروبية سيعتمد أيضا إلى حد كبير على تطور العلاقات عبر الأطلسي.

كيف ستتطور المواجهة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية؟

بداية، نلاحظ أن إحدى عواقب الحرب مع أوكرانيا تعني التقارب بين موسكو وبكين. ولكن الصينيون لديهم رؤية. إنهم يريدون أن يصبحوا القوة الرائدة في العالم، أو على الأقل مساوية للولايات المتحدة الأمريكية. لكن على النقيض من الغربيين، فإنهم لا يزعمون تصدير نموذجهم السياسي إلى العالم الأوسع. إنهم يريدون إبقاء النظام الدولي مفتوحا قدر الإمكان، لأن ذلك يصب في مصلحتهم، ولكن بقواعد لعبة تأخذ في الاعتبار توازن القوى.

لكنني أخشى أن تكون السنوات القادمة أصعب بكثير مما نعتقد

سيفعل الصينيون أي شيء لتحقيق أهدافهم في تايوان. وبما أنهم يتمتعون بنظام سياسي يسمح لهم بان يكونوا صبورين، فإنهم ينتظرون اللحظة المناسبة، عندما يجد الغرب ــ وخاصة الأميركيين ــ أنفسهم في موقف ضعيف. سيستغلون ذلك الوضع بعد ذلك لالتهام أعدائهم. هذا هو السيناريو الأكثر احتمالا برأيي. ولكنني عندما أقول هذا، لا أنسى أن حيل التاريخ قادرة دائما على دهشتنا.

ضمن أي سيناريو نجد أنفسنا نتجه نحو الحرب العالمية التي تخشى أنت اندلاعها؟

هذا السيناريو، كما كان الحال مع أسباب اندلاع الحرب العالمية الأولى، من شأنه أن يتماشى مع سلام طويل الأمد جعل الجميع يغطّون في نوم عميق. لكن على مدى السنوات الثمانين الماضية، كانت هناك العديد من الصراعات الهامشية، لكنها لم تصل لأن تكون حروب كارثية. لم يحدث الصراع النووي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. في حين انتقلت الحرب إلى ما كان يسمى آنذاك بالعالم الثالث الذي يمثل في نسخته المعاصرة الأكثر تطورا ما يسمى "بالجنوب العالمي".

لكنني أخشى أن تكون السنوات القادمة أصعب بكثير مما نتصور، ومع ذلك فإننا نطمئن أنفسنا بلا مقابل. إن هدفي لا يعني اثارة الخوف، بل دعوة الأوروبيين على وجه الخصوص إلى أن يأخذوا بعين الاعتبار إمكانية حدوث أزمات مماثلة إلى حد ما لتلك التي أشعلت فتيل الحرب العالمية الأولى. هل يجب علينا أن نتذكر أيضا أن الحرب العالمية الأولى كانت هي التي أنهت العولمة الأولى؟

إن الحرب في أوكرانيا لها بعد عالمي، ونحن نشهد توسعا لها ضمن أشكال مختلفة من الحروب الهجينة. تجدر الإشارة على وجه الخصوص إلى أن روسيا والصين، أو قوى أخرى أقل أهمية، قد تتمتع بمزايا نسبية بسبب هذا النوع من الصراع. في الوقت الحالي، تريد الأطراف الفاعلة الرئيسية تقليص المخاطر الجماعية لاندلاع حرب كبيرة. لكن الأوضاع قد تتغير في السنوات القادمة إذا لم يتم اتخاذ إجراءات وقائية جماعية.


Créez votre site web gratuitement !